
يُعدّ قطاع الصيد البحري واحداً من أكثر القطاعات الحيوية في الاقتصاد الوطني، لما يختزنه من ثروات طبيعية متجددة وقدرة على خلق فرص شغل وتحقيق الأمن الغذائي. غير أنّ هذا القطاع، في مدينة الاقتصاد ، تحوّل من فضاء للإنتاج المستدام إلى منجم للنهب المقنّع، تُستنزف من خلاله خيرات البحر لصالح فئة محدودة لا همّ لها سوى تراكم الثروة السريعة على حساب المصلحة العامة.
نهب الثروات تحت غطاء الاستثمار
تُمنح رخص الصيد أحياناً بطرق تفتقر إلى الشفافية، وتتحول إلى وسيلة للاغتناء غير المشروع. فبدلاً من أن تكون هذه الرخص أداة لتنظيم الصيد وضمان استدامة الموارد، أصبحت امتيازات تُوزَّع كغنائم سياسية أو اقتصادية. النتيجة هي احتكار القلة، وحرمان الصيادين الصغار من نصيبهم المشروع في خيرات البحر، فضلاً عن انتشار ممارسات مدمّرة مثل الصيد الجائر أو استعمال وسائل محرّمة تُهدد التوازن البيئي.
التهرب الضريبي: اقتصاد الظل في أبهى صوره
ما يفاقم الوضع هو التهرب الضريبي المنهجي الذي تمارسه بعض الشركات الكبرى، حيث تُهرَّب كميات ضخمة من المنتوجات السمكية دون تسجيلها، أو تُباع بأسعار وهمية لتقليص الأرباح المصرّح بها. بهذه الطريقة، لا تكتفي هذه الشركات بنهب البحر، بل تنهب كذلك خزينة الدولة، فتحرمها من موارد كان يمكن أن تُستثمر في التعليم، الصحة، والبنية التحتية الساحلية.
جيل “أشباه رجال الأعمال”
من رحم هذا الواقع، وُلد جيل من “أشباه رجال الأعمال” الذين لا يمتّون لريادة الأعمال بصلة. إنهم وسطاء نفوذ، لا يصنعون الثروة بعرق الجبين ولا بالابتكار، بل بفضل علاقات سياسية أو امتيازات مريبة. هؤلاء لا يخلقون القيمة، بل يستهلكونها، ولا يسهمون في تنمية الوطن بقدر ما يعرقلون مساره الاقتصادي ويشوّهون مفهوم العمل الحر والاستثمار المسؤول.
آثار اجتماعية واقتصادية مدمّرة
تنعكس هذه الممارسات في تدهور الأوضاع الاجتماعية للصيادين، وارتفاع نسب البطالة في المناطق الساحلية، وتزايد الفوارق الطبقية بين من يملكون النفوذ ومن يعيشون على هامش البحر. كما تؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات، وإحساس المواطن بأن الثروة الوطنية أصبحت رهينة في أيدي قلة فاسدة لا تُحاسَب.
نحو قطيعة مع الريع والفساد
إنّ إصلاح هذا الوضع يتطلب إرادة سياسية صلبة تقوم على الشفافية والمحاسبة والمراقبة البيئية والضريبية الصارمة. كما يجب إعادة الاعتبار لاقتصاد الإنتاج الحقيقي، ودعم الصيادين التقليديين، وتشجيع الاستثمار المسؤول الذي يوازن بين الربح والتنمية المستدامة.
خلاصة القول
إنّ نهب الثروات البحرية والتهرب الضريبي وصناعة “أشباه رجال الأعمال” ليست مجرد مظاهر فساد اقتصادي، بل هي علامات على أزمة أخلاقية وتنموية تهدد مستقبل الوطن. ولن يتحقق الإصلاح إلا عندما تُستعاد الثروة إلى أصحابها الحقيقيين: الشعب، والبحر، والمستقبل.