"الله دي تقيلة أوي. دي البطانية وده مطار القاهرة. البطاطين وصلت، يا رجالة، أخيراً بعد عناء شديد. شوفوا البطانية عاملة ازاي، يا ولاد، حاجة ألاسكا خالص بطانية بجد بطانية تقيلة". تلك كانت مفردات واحد من أكثر عروض الستربتيز الإعلامي انحطاطاً، قبل عامين، حين صاح مذيع، عالي الأجر، خفيض القيمة، محتفلاً بوصول بطاطين وملابس مستعملة من دولة الإمارات، مساعدات عينية لسكان جبلاية الانقلاب.
مصر التي فتحت أبوابها لشحنات البطاطين، الآتية من مهرجان التسول، من رعاة الانقلاب، تستأسد، الآن، وتستجمع شراستها لمنع وصول بطاطين إلى المسجونين والمعتقلين في زنازين النظام.
وأنت تشاطر ذوي المسجونين الأحزان، على تعذيبهم بتركهم للبرد ينهشهم في عتمة الزنازين، ارجع بذاكرتك إلى ذلك الشتاء من العام 2011، عندما كانت مصر ثائرة، وحاول أن تستدعي ملامح الذين كانوا يوزعون البطاطين، ويمدون الأغطية على المعتصمين في صقيع يناير.
لو كنت لا تزال تحتفظ بإنسانيتك، بعيداً عن أعين البصاصين وسياط الجلادين، فلا بد أنك سوف تستحضر وجوه محمد البلتاجي وعصام سلطان وباسم عودة وعلاء عبد الفتاح وأحمد ماهر ومحمد سعد الكتاتني وحازم أبو اسماعيل وحسام أبو البخاري وعشرات، بل مئات، من الوجوه التي قابلتها يوماً توزع الدواء والغذاء والهتاف، وتشحن بطاريات الأمل في الخلاص.
تلك هي الوجوه التي يعذبونها بالبرد، الآن، ويمنعون عنها الدواء والغطاء والطعام في سجن العقرب، وغيره من قائمة سجون النظام القاتل، المنتشرة بطول مصر وعرضها. يقاومون القهر ببسالة، حتى يكسرهم المرض، ويسلمهم إلى الموت، حرماناً من العلاج، كما حدث مع الدكتور فريد إسماعيل، رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان المنتخب بعد الثورة، والدكتور طارق الغندور الأستاذ في كلية الطب في جامعة عين شمس، وعشرات ممن قضوا، لأن السجان، بعد أن تعب من إهانتهم وتعذيبهم، قرّر دعوة المرض ليشاركه وليمة نهشهم، كما يدعو برد الشتاء القارس، الآن، كي يشبع منهم.
حسنا، جميل أن يستعرض أبناء خطيئة الثلاثين من يونيو إنسانيتهم، بعد استعادتها من تحت الردم، ويتحفونا بعباراتٍ رقيعةٍ للتضامن مع المساجين المحرومين من البطاطين، على الرغم من أنهم من "الإخوان"، ويلعنوا من كان السبب في افتراسهم بالصقيع، على الرغم من الخلاف السياسي معهم.. إلى آخر هذه القائمة من البكائيات الموغلة في استعلائها وعنصريتها.
غير أن الأهم، هنا، هل يملك أصحاب الدموع، الاصطناعية منها والحقيقية، شجاعة مواجهة الذات بالحقيقة المرة؟ هل لديهم الاستعداد للاعتراف بأنهم كانوا سبباً في ما صارت عليه مصر الآن، حين استسلموا لانتهازيتهم، ووافقوا، أو سكتوا، أو لم يمانعوا، في أن يخلصهم السجان الكريه من خصومهم السياسيين ويقتلعهم من التربة المصرية؟
هل يملك أحدهم الجسارة، لكي يقول لنفسه إنه في اللحظة التي تواطأ فيها مع هستيريا الإقصاء والإبادة، وصمت عندما نصبوا المحرقة في المقطم، قبل الانقلاب بعدة أشهر، كان يمد يده ليزيح الغطاء عن المتكومين على بلاط الزنازين الآن؟
جيد أن يتراجعوا عن الاستقالة من شرف الخصومة، وإنسانية الخلاف، بعد أن تقدّموا بها، في أحداث المقطم مارس/ آذار 2013، عندما صفقوا وهتفوا، بل وشاركوا في حرق المنتمين إلى الإخوان المسلمين أحياء، في ما عرف بأحداث مكتب الإرشاد، في تلك الجمعة التي وصفتها بأنها كانت جمعة الاستقالة النهائية من الثورة، والانسلاخ التام عن الآدمية، وتشييع الإنسانية إلى مثواها الأخير، جمعة الانفلات من البشرية، والغوص عميقاً في قاع "البهائمية" كانت.
أكرّر، هنا، السؤال الذي طرحته، بعد مشاهدات ليلة الانحطاط الثوري في المقطم، حيث لن تجد تعبيراً أوقع من مصطلح "البهيمة البشرية" لوصف ما جرى، لكن الكل قبل التوصيف ينبغي أن يشغلوا أنفسهم وضمائرهم بسؤال أهم: من الذي أدخل ثورة الكرامة الإنسانية إلى خرائب البهيمة البشرية؟
ربما كان طرح هذا السؤال الآن نوعاً من الرفاهية التي لا لزوم لها، فلنوجه أسئلة أخرى: ما الذي يمنع أن تكون الجمعة المقبلة هي "جمعة البطاطين"، وما الذي يحول دون أن تتم الدعوة إلى مسيرات سلمية تحمل البطاطين والأغطية وتتوجه إلى السجون، تحت عين الرأي العام وبصره، وضمير العالم، من دون أن ترفع لافتات سياسية، أو تطلق هتافات، فقط تتحرك في صمت لتضع حمولتها من الأغطية والأدوية على بوابات السجون؟
هل يمكن لنخبة مصر من المثقفين والسياسيين والناشطين الحقوقيين المعروفين أن يتقدّموا الصفوف، ويتصدروا مسيرات تقرع أبواب الضمير النائم والضمير الغائب والضمير المستتر تحت ركام الخوف والعجز والبلادة؟
أشهروا البطاطين سلاحاً حضارياً في وجه سلطة القهر، وارفعوا علبة الدواء علماً للإنسانية، وادعوا بان كي مون والاتحاد الأوروبي وسفراء العالم ليكونوا شهوداً على جريمتهم، وليكن الاصطفاف فوق البطانية، وحول علبة الدواء، وليس عبر الأقمار الاصطناعية، إن كنتم حقاً جادين.