"السيادة" أسطوانةً مشروخة

ليس ثمّة ما يمنع حكام بغداد من استمرار الحديث عن سيادة بلدهم، ومطالبة العالم بضرورة احترامها، ما دام ذلك لا يتعدّى حدود الاستهلاك المحلي، وما دام المواطن غير معني بما يسمعه منهم، تكفيه همومه التي تطوق حياته، منذ أكثر من عشر سنين عجاف. وتكشف الوقائع الصادمة على الأرض أن "السيادة" بالنسبة لهؤلاء لم تعد سوى أسطوانة مشروخة، تنتظر لحظة الكسر والتشظي النهائي.
يقتحم أكثر من نصف مليون إيراني حدود البلاد، من دون سمات دخول، وحتى من دون إعلام بغداد مسبقاً. أعداد كبيرة كهذه، بينها رجال أمن، ومخبرون سريون، ودعاة طائفيون، يطمعون في الإقامة الدائمة جنب ضريح الحسين، والحصول على الجنسية العراقية، لا يمكن أن يكون مرورهم قد تم من دون تنسيق مع السلطات الأمنية في بلادهم. بغداد لا تحتج، ولا تعتب، ولا تطلق كلمة تأفف، إنما تستقبلهم، وتستضيفهم، وتؤمن لهم ما يريدون، وعندما ترتفع أصوات بعض من كظموا غيظهم طويلاً، في شجب هذا التصرف، ينبري قائد الجيش الإيراني، عطا الله صالحي، ليزعم أن "ليس من حق العراق منع الإيرانيين من دخول أراضيه، لأنها بالأساس أرض أجدادنا، ونحن أحق فيها. لذا، على العراقيين معرفة هذا الحق، وتجنب مجاراة الأمة الإيرانية"، وتستسلم حكومة بغداد أمام هذه "الصفاقة"، وتصمت مرغمة.
أيضاً لأنها أرض أجدادهم، ينشر فيلق القدس الإيراني قواته في أكثر من مكان استراتيجي في العراق، تحت ستار التعاون مع مليشيات الحشد الشعبي الخاضعة، هي الأخرى، لقيادة إيرانية، في إطار محاربة "داعش"، ويجلب ثمانية آلاف مستشار عسكري، وينقل وحدات خاصة إلى أطراف كركوك، للاقتراب من منابع النفط، وإيجاد موطئ قدم ثابت له في المنطقة، يمكّن طهران من أن تكون طرفاً في الصراع على المدينة نفسها مستقبلاً. لا تقف بغداد ضد هذه التحركات، بل تباركها، وتمنحها الرضا والقبول، لأنها لا تستطيع رداً لإرادة "الولي الفقيه".
تعرف واشنطن التي جندت حكام بغداد من الأزقة الخلفية لدول الغرب والجوار، وأجرت لهم عمليات اختبار داخل أقبية "سي آي إيه"، تعرف أن لا أحد منهم يرد طلباً لها، وتقرر إرسال مزيد من قواتها البرية، هي الأخرى، بزعم مقاتلة "داعش"، وعندما يعلن رئيس الحكومة، حيدر العبادي، على استحياء، رفض أي وجود عسكري أجنبي على أرض العراق، يعبر مسؤولون آخرون عن ترحيبهم بالوجود الأميركي، وبسواه أيضاً، ويضحك الأميركيون ملء أشداقهم من الوضع "الكاريكاتوري" للحكام الذين صنعوهم، ويكشفون أن العملية تمت بالاتفاق معهم، وأن "وحداتٍ من القوات الخاصة" وصلت إلى العراق، وأخرى في الطريق، ويبلع حكام بغداد النكتة ويصمتون.
تدخل تركيا حلبة الصراع، وتتواتر معلومات عن وجود قوة عسكرية بحدود ثلاثة أفواج تركية، مدرعة بدبابات ومدافع في مدينة بعشيقة في أطراف الموصل. قال العبادي، إنه علم أخيراً (أخيراً فقط)عن وجود فوج واحد (لا غير)، وأنه يعتبر ذلك "خرقاً للسيادة". وطالب بسحب القوة فوراً، وهدّد باللجوء إلى مجلس الأمن. دعا حاكم الزاملي رئيس اللجنة الأمنية البرلمانية "طيران الجيش والقوة الجوية لضرب تلك القوات، واعتبارها قوات محتلة". وأكدت أنقرة أن القوة موجودة منذ أكثر من سنتين، بالتنسيق مع وزارة الدفاع العراقية، وقال محافظ الموصل إن العبادي هو الذي طلب وجود قوة تركية في لقائه مع رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو. وتقول حكومة كردستان إن الوجود التركي يقع في إطار "التحالف الدولي ضد داعش"، وقد أقيمت ثلاثة مراكز للتدريب، تضم مئات الخبراء والآليات.
لا يستطيع أحد لوي عنق كل هذه الوقائع، ولا يستطيع أن يفسر مبرّر الإمعان في ممارسة حكام بغداد سياسات عرجاء، ومواقف ملتبسة كهذه، بغير تخاذلهم، وعدم اقتدارهم على تسيير سياسات بلدهم، وتدبير شؤون مواطنيهم، وخوفهم من خسارة الامتيازات التي غنموها بغير وجه حق، أما الادعاء بالعمل للحفاظ على السيادة، فأمر لم يعد يتفق مع واقع الحال، فأية "سيادةٍ" هذه، والرجل التنفيذي الأول لا تصل سلطته الفعلية إلى أبعد من مكتبه، فهو لا يستطيع أن يكبح جماح المليشيات، ولا يملك أن يرد طلباً للمرجعيات، وليست له سلطة على قواته المسلحة، أو وزرائه، وحتى على حزبه الذي يوشك أن يصبح حزبيْن. كيف له، إذن، أن يمارس سلطة ما على أرض بلاده، أو في علاقاتها مع دول العالم؟ -