الكتاب ومؤلفه : يقع هذا الكتاب فيما يتجاوز الثلاثمائة صفحة، ويضم أربعة عشرة فصلاً، وقائمة بالصور التوضيحية. والفصول الأربعة عشرة تتناول موضوعات متنوعة. ويتصدر الكتاب مقدمة تعرض لآخر التطورات في الشأن العالمي، بعد الربيع العربي. فقد كتب الكتاب قبل هذا التاريخ ونشر قبل اندلاع الثورات العربية بعام، وخرجت منه طبعات لاحقة آخرها طبعة عام 2012، التي ترجمها الأستاذ أحمد محمود وصدرت عن المركز القومي للترجمة.
مؤلف هذا الكتاب هو جورج فريدمان وهو واحد من أبرز علماء السياسة الأمريكيين، ولد في بودابست عام 1949، والتجأت عائلته إلى الولايات المتحدة عام 1950 بعد نجاتها من الهولوكوست النازي. درس في نيويورك، ثم أكمل دراسته الجامعية في جامعة كورنيل عام 1976، ومارس التدريس الجامعي كأستاذ في جامعة ديكنسون في ولاية بنسلفانيا، وساهم في تدريب قادة القوات الأمريكية. أنشأ في عام 1996 معهده الشهير في ستراتفورد. وهو معهد متخصص في شئون الأمن والجغرافيا السياسية وفي علم التنبؤ الاستراتيجي. وأثارت أفكاره وآراؤه الاهتمام الواسع، حتى غدا من المؤثرين في تكوين الرأي السياسي الأمريكي. ونشر العديد من الأعمال العلمية، وبعضها كان مثار الاهتمام في العالم.
والكتاب هو بمثابة خارطة طريق على الرئيس الأمريكي في العقد الممتد من عام 2010-2020، أن يسلكها، إتباعا لاستراتيجية أساسية، يرى المؤلف ضرورة تطبيقها عند تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية مستقبلا. فالضرورة الأكثر أهمية برأيه لقيادة السياسة الأمريكية في العقد المقبل هي العودة إلى الاستراتيجية العالمية المتوازنة التي تعلمتها الولايات المتحدة من نموذج روما القديمة، ومن بريطانيا قبل مائة عام، فهؤلاء الإمبرياليون لم يحكموا بالقوة والحديد والنار بل حافظوا على هيمنتهم بوضع لاعبين محليين في مقابل بعضهم البعض وإبقائهم في صراع وتعارض مصالح، ما يجعل التدخل المباشر بالقوات المسلحة آخر الوسائل.
إذ يرى أن تغيرا عميقا شهدته مناطق العالم وأهمها منطقة الشرق الأوسط. كانت الاستراتيجية الأمريكية السالفة هي بناء توازنات تتمثل في: وضع العراق أمام إيران، باكستان أمام الهند، إسرائيل أمام العرب. لقد تغيرت قواعد اللعبة، فلم يعد العرب يهددون إسرائيل، بل نشأت علاقات من التعاون والعمل المشترك. ولم يعد للعراق وجود قوى كما كان من قبل، بعد غزو أمريكا لها، وفشل المشروع الأمريكي فيها. كذلك أضعفت الحرب في أفغانستان قوى باكستان، ولم تعد باكستان القوة المهددة للهند. إذن على الولايات المتحدة إعادة رسم خريطة التوازنات مرة أخرى.
لماذا الولايات المتحدة دون غيرها ولماذا الرئيس الأمريكي، وليس المؤسسة الأمريكية؟ لأن أمريكا هي القوة الوحيدة الكبرى في العالم. فهي تمتلك أقوى الجيوش على الأرض، ولديها أقوى الأسلحة والعتاد والتكنولوجيا العسكرية، واقتصادها أكبر اقتصاد في العالم. فاقتصادها يبلغ حجمه ثلاث مرات حجم دولة الصين التي تحتل المرتبة الثانية بعدها، وهى تمتلك 22.5% من الاستثمار المباشر الأجنبي في كافة البلدان، ما يجعلها مصدر الاستثمار الأكبر في العالم.
هذا عن وضعية الولايات المتحدة فماذا عن وضعية الرئيس الأمريكي/الإمبراطور؟ من الواضح بحكم الأوضاع في الولايات المتحدة أن سلطة الرئيس الواضحة تتمثل في قيادة البلاد في الشأن الخارجي. فالرئاسة عمليا هي قوة ضعيفة داخليا ولكنها قوية قوة هائلة في الخارج. ففي الشئون الداخلية، يفرض الدستور وجود سلطة تنفيذية يحيط بها الكونجرس، الذى يصعب السيطرة عليه، ومحكمة عليا يستحيل إلى حد ما معرفة ما تشعر به أو تفكر فيه. والاقتصاد في أيدى المستثمرين والمديرين والمستهلكين وبين أيدى بنك الاحتياط الفيدرالي، وجزء كبير من المجتمع المدني خارج سيطرة الرئاسة. وهذا ما أراده المؤسسون: شخص يتولى المسئولية، ولكن لا يحكمها. ولكن عندما تواجه الولايات المتحدة العالم فليس أمامها سوى شاغر البيت الأبيض ليقودها.
المنهج
إن منهج السياسة الأمريكية الذى يدفع به جورج فريدمان هو السياسة الميكيافيلية التي تجمع بين المصلحة والمبدأ الأخلاقي. وهنا يميز فريدمان بين مدرستين في التعامل مع السياسة الخارجية. أولهما المدرسة المثالية التي ترى أن السياسة الخارجية ينبغي أن تنصاع للمبادئ الأخلاقية: حق تقرير المصير وإقرار حقوق الإنسان. فالولايات المتحدة تقيم علاقات قوية مع البلدان التى تتجاوب مع مبادئها الأخلاقية وتناوئ من دون ذلك. بينما تتمثل المدرسة الثانية وهى المدرسة الواقعية مبدأ المصلحة القومية. حيث ينبغي على الولايات المتحدة أن تتقيد بمصلحتها القومية في بناء علاقاتها الخارجية. ويشكك فريدمان في طرح المدرستين عبر:
أن القيم والمبادئ الأخلاقية الأمريكية يمكنها أن تطبق على نحو يجعلها تعارض بعضها بحيث يصعب على الولايات المتحدة اتخاذ موقف من الدولة التي تسلك هذا المسلك. ويضرب مثلا على ذلك بألمانيا. ماذا لو قامت ألمانيا بانتهاك حقوق الإنسان في الآن ذاته الذى أرادت فيه الحفاظ على استقلاليتها ووحدتها القومية؟ ماذا تفعل الولايات المتحدة مع البلدان التي تخالفها في النظام السياسي وتتبنى نظاما تراه مخالفا لمبادئها وتحصل في الآن ذاته على القبول الشعبي، هل تعارضها أم تتحالف معها؟ النظام المعترف به في هذه البلدان نظام يبنى شرعيته على الثقافة المقبولة شعبيا كالسعودية فكيف العمل معها؟
أن هناك صعوبة بالغة في تحديد المصلحة القومية. الدول الصغيرة تستطيع تحديد مصالحها القومية بدقة، فيما الدول الكبرى ذات العلاقات المتعددة والمتشابكة، يصعب عليها أن تحدد مصلحتها على النحو المأمول.
ويذهب فريدمان في النهاية للتأكيد على أن الولايات المتحدة عليها الجمع بين المنطلقين فهى من جهة عليها أن تحافظ على المبادئ الأخلاقية الجمهورية وأن تتحالف مع القوى المغايرة لها في القيم والأنظمة السياسية لتحقق أهدافها وغاياتها الأخلاقية، حتى لو كانت هذه القوى هى الشيطان نفسه.
وعلى هذا النحو يعرف السياسة الخارجية على أنها سياسة غير عاطفية، وبمقتضاها لابد للرئيس أن يحدد بفهم وبلا عاطفة الأعداء الأشد خطورة، ثم يخلق تحالفات لإدارتهم. وتعنى هذه المقاربة غير العاطفية الانفصال عن تحالفات نظام الحرب الباردة ومؤسساتها بالكامل، بما في ذلك الناتو وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة؛ ذلك أن مخلفات الحرب الباردة هذه كلها ليست بالمرونة الكافية للتعامل مع تنوع عالم اليوم. ربما لا يزال لبعضها قيمة، لكن في سياق المؤسسات الجديدة التي لابد من ظهورها، ولابد لهذه المؤسسات أن تكون إقليمية، لابد أن تسعى الولايات المتحدة لخدمة مصالحها الاستراتيجية، طبقا للمبادئ الثلاثة التالية:
تمكين توازن القوى في العالم من استهلاك طاقات الأطراف المشاركة فيها، وإبعاد التهديدات عن الولايات المتحدة.
خلق تحالفات تناور بها الولايات المتحدة غيرها، مع دعم هذه البلدان بالإعانات الاقتصادية والتكنولوجيا العسكرية والوعود بالتدخل العسكري، إذا لزم الأمر.
استخدام التدخل العسكري كملاذ أخير فحسب عندما ينهار توازن القوى لصالح طرف من الأطراف، ولا يعود بإمكان الحلفاء التعامل مع المشكلة.
أشكال التوازنات
أولاً- التوازن العربي الإسرائيلي
يضع فريدمان عددا من الفرضيات التي يراها محورية برأيه في تشكيل الوضع القائم بشأن العلاقات الإسرائيلية الأمريكية:
أن إسرائيل تعيش لحظة تاريخية خالية من التهديدات العربية، وهذا نابع من عدة أسباب يقف على رأسها برأيه أن البلاد العربية في وضع سلام تام مع إسرائيل، ولا يوجد قوة مناوئة إلا الداخل الفلسطيني.
ومع ذلك يعانى هذا الداخل من انقسام، بين حركتي فتح وحماس، انقسام يمثل لإسرائيل توازنا للقوى يحفظ لها وجودها، ويحميه مؤقتا.
حاول المؤلف التأكيد على أن تشكل الهوية الفلسطينية قد كان بعد 1967، فيما قبل ذلك لم يكن هناك وجود لدولة فلسطينية، وهو التصور الذى روجت له إسرائيل من أن فلسطين هي أرض بلا شعب، ويحاول أن يؤسس على ذلك أسطورة أخرى وهى أن الدول العربية لديها أطماع تاريخية في الأرض الفلسطينية. وذلك بادعاء بأن السوريين ينظرون لفلسطين كجزء من سوريا القديمة، والأردنيون ينظر بعين العداء والخصومة التاريخية مع الفلسطينيين، والمصريون أنشئوا منظمة التحرير لبناء دولة عربية واسعة الأطراف تقف منها مصر موقف القيادة لها.
أن الوضع القائم لا يسمح بأن تظل إسرائيل كما كانت من قبل فلم تعد أطراف المعادلة السياسية كما هي. فليس هناك تهديد روسي، ولا يوجد تحالفات عربية مقلقة، وليس الداخل الفلسطيني متجانسا، وبرأيه لا يوجد لدى العرب إيمان حقيقي بحق الفلسطينيين بدولة مستقلة. وهو ما يجعل أمام الولايات المتحدة خيار واحد وهو ترك الأوضاع القائمة دون تدخل مباشر، فعليها أن تفك ارتباطها بإسرائيل بشكل غير معلن، دون أن يعنى ذلك القبول بانهيار إسرائيل كدولة. سيكون الدعم صوريا من أجل الحصول على التأييد اليهودي في الداخل الأمريكي، والفوز بالمساعدات اللوجيستية كالحصول على المعلومات الاستخبارية عن المنطقة، والقوات التي تحتاجها لعملياتها داخل المنطقة.
على الرئيس مواصلة إرسال المبعوثين لوضع خرائط السلام وإدانة الأطراف على الأخطاء المرتكبة، ولا يجب أن يكون لديه طموح تحقيق سلام دائم لأن ذلك برأي المؤلف يهدد المنطقة.
ثانياً- التوازن الإيراني التركي
في هذه المنطقة أمام الولايات المتحدة ثلاثة أهداف: الحفاظ على توازن القوى، والتأكد من عدم تعطيل النفط، وهزيمة ودحر الإرهاب.
وأمام غياب العراق عن المشهد الآسيوي، فالبلد الوحيد القادر على أن يكون ثقلا في المنطقة هي تركيا بغض النظر عما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة. فتركيا تحتل المركز السابع عشر بين أكبر اقتصاديات العالم وهى صاحبة أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط ، ولديها أقوى جيش في المنطقة، وباستثناء بريطانيا وإيطاليا هي أقوى جيش في أوروبا.
وهيمنة إيران على جزيرة العرب مع خلو المنطقة من العراق لن ترضى به تركيا فهي في حاجة لنفط الجزيرة. وبذلك تؤدى تركيا عدة أدوار، فهي حائل صد ضد امتداد إيران في آسيا باتجاه شبه الجزيرة العربية والشام، وضد روسيا في منطقة البلقان والقوقاز.
ثالثاً- توازن أوراسيا
إن ما يقلق المؤلف بالنسبة للروس هو أن يعاود الروس تجميع قوتهم السابقة بالتحالف مع البلدان التي كانت تتبعها سلفا، أي أن تقوم روسيا بجمع أشلائها، وأن تتحالف مع ألمانيا تحالفا ممتدا وقويا ينتج عنه تحالف بلدان أخرى أوروبية. هناك بالطبع علاقات قوية بين الروس والألمان ، علاقات مبنية على النفط الذى تحصل عليه ألمانيا من روسيا. وكل ما تخشاه الولايات المتحدة أن يتشكل تكتل أوراسي تكون ألمانيا وروسيا محوره، ويرى أن هناك بناء لوحدة مع توصل روسيا وروسيا البيضاء وكازخستان لاتحاد اقتصادي، وقد عبر الأرمن والطاجيك عن رغبتهم في الانضمام، وهذه العلاقة سوف تتطور برأي المؤلف إلى اتحاد سياسي من نوع ما، وهو تحالف سيقطع شوطا بعيدا في بعث الملامح الأساسية للاتحاد السوفيتي السابق.
إن الخوف الأساسي هو أن القوة الوحيدة التي تجمع الأوروبيين ربما تكون في طريقها للانهيار، وهو ما يعنى ضمنا المضي قدما للبحث عن تحالفات إقليمية أكثر منفعة. ويضرب المؤلف مثلا على هشاشة هذا الاتحاد وانحيازه للبلدان الكبرى، بما حدث بشأن بلدان أوربا الشرقية. فقد تضررت هذه البلدان كل الضرر من أزمة عام 2008، وعانت منها على المستوى الاقتصادي وكانت البنوك في انتظار تعاون ومساندة الاتحاد الأوروبي، وكانت الدولة الوحيدة التي تستطيع القيام بذلك هي ألمانيا. ولكن ألمانيا لم تقدم يدها للمساعدة.
وأمام هذه القوة الأوراسية لابد الاستفادة من القوى التالية:
الاستفادة من البلدان الواقعة بين بحر البلطيق والبحر الأسود، أو ما يسمى بلدان ما بين البحرين. وهو يعنى تحديدا بولندا. فموقعها الاستراتيجي يمكنها من القيام بهذا الدور، كما أنها لا ترغب ضمنا في القيام بأي دور ناحية ألمانيا ولا روسيا، فهي لا تريد أن تخدع أو أن تقع في أي نوع من الارتباطات والعلاقات مع أي من العدوين التاريخيين، وبالتالي فالسبيل ممهد أمام أمريكا لتكوين علاقات قوية معها، ولتكن الشوكة التي تقع بين روسيا وألمانيا. وسيكون ذلك من خلال مد بولندا بالإمدادات العسكرية وبالتكنولوجيا وبالقوات التي تؤكد حماية الولايات المتحدة لها.
المحافظة على العلاقات الثنائية مع النرويج التي يمكنها منع تحرك الأسطول الروسي، ومع آيسلندا، التي يراها المؤلف منطقة متميزة للبحث عن الغواصات الروسية، ومع كل من سلوفاكيا والمجر ورومانيا. والأمر يحتاج تقوية اقتصاديات وجيوش هذه الدول الثلاثة الأخيرة.
وكما سلف القول تمثل تركيا حائط الصد أمام التمدد الروسي، فهي القوة القادرة على تحجيم الدب الروسي في منطقة البلقان.
رابعا: التوازن في أمريكا الشمالية
لن تجد الولايات ما يهددها في أمريكا الشمالية سوى دولتين تحديدا، الدولة الأولى هي البرازيل، ولكن ذلك غير متحقق في الوقت الحالي. فمنطقة غرب الباسيفيكى لا تمثل منطقة مقلقة للولايات المتحدة، باستثناء أن تزداد قوة البرازيل. وهى براهنها دولة حيوية وقوية ولكنها لم تصل بعد لما يمكن اعتباره نقطة القلق الأمريكي، ولكن حتى لو وصلت إلى هذه النقطة فإن الأمر يتطلب من صانع السياسة أن يتجه مباشرة وبصورة فورية باتجاه الأرجنتين. إن ذلك ضروري لبناء خطوة استباقية أمام البرازيل، فهي الدولة الوحيدة القادرة على القيام بهذا الدور لأسباب جيوبوليتيكية بطبيعة الحال.
والدولة الثانية هي المكسيك. إنها تثير القلق الأمريكي لسببين: المخدرات والهجرة غير الشرعية. فالحدود الأمريكية مع المكسيك حدود واسعة للغاية ما يصعب وضع حلول من قبيل بناء سور حاجز أو وضع قوات على الحدود. هذه الفوضى الحدودية تمنح الفرصة للمنظمات الإجرامية لتمارس التجارة غير الشرعية وتمرير المهاجرين للعمل. وأمام صانع القرار عدة حلول للتعامل لمشكلة الهجرة. أولها كما ذكرنا وضع سور على الحدود، وقوات للحماية وهو أمر ليس في المتصور. وثانيها اللجوء لبطاقات لتسجيل المهاجرين، تستخدم كما تستعمل بطاقات الائتمان، ولكن هذا سيجلب المشكلات للحكومة، حيث يخشى أن تستغل الحكومة ذلك بتحري الأموال الموجهة للمنظمات السياسية. وهو حل جيد ولكنه سيعوق العملية السياسية وقد يستغل ضد المنظمات السياسية الفاعلة. وثالث الحلول الاصطدام مع الشركات الأمريكية التي تعين العمالة الأجنبية لرخص سعرها وامتناعها عن الأمريكيين. وبطبيعة الحال يمكن حل المشكلة بتدخل من هذا النوع ولكنه غير ممكن برأي المؤلف عمليا. وهذا معناه أن مشكلة الهجرة غير الشرعية مشكلة غير محلولة.
إذا كانت مشكلة الهجرة غير محلولة فإن مشكلة المخدرات هي الأخرى غير محلولة، كما يؤكد المؤلف. فأمام صانع القرار عدة خيارات أحلاها مر. فمن جهة أمامه أن يدخل في صراع عسكري على الحدود مع المنظمات الإجرامية المتاجرة بالمخدرات، وهذا الصراع سوف يدخله في أزمة سياسية مع المكسيك كدولة. وأمامه أن يقنن المخدرات، وأن يرفع القيود القانونية المفروضة عليها. وبالطبع هذا الخيار فيه مخاطرة كبيرة فهناك تخوفات من أن يتسبب في ارتفاع معدل الإدمان والمتعاطين، وربما يكون المكسب الوحيد هو تقويض اقتصاد التهريب، مع انخفاض السعر. وبالتالي فالحلول المطروحة سواء اتصلت بمشكلة الحدود أو بمواجهة تجار المخدرات الأجانب، أو بتشريع المخدرات، جميعها غير ممكنة. ولذلك يقترح المؤلف على الرئيس الأمريكي في تعاطيه مع مشكلة الهجرة غير الشرعية أو المخدرات أن يتظاهر بالمواجهة. أن يدعى أن الحكومة الأمريكية تبذل قصارى جهدها في عمليات المواجهة، وأن يسعى في الوقت ذاته إلى تأكيد هذا الادعاء بافتعال بعض القضايا، كأن يتم فصل أفراد من العاملين معه أو من مكتب التحقيقات الفيدرالية أو إدارة مكافحة المخدرات أو الاستخبارات المركزية أو الجيش بفضيحة ، واجراء تحقيقات موسعة للتحقيق في أسباب فشل المكافحة.
خامساً- التوازن الأفريقي
لا تمثل أفريقيا منطقة تثير قلق الولايات المتحدة. لا يوجد بها دولة تعتبر خطيرة وتحتاج للموازنة. فهذه المنطقة برأي المؤلف خالية من مفهوم "الدولة القومية"، باستثناء شمال أفريقيا، وبالتحديد مصر، لا يوجد سوى أشباه دول، بلدان عبارة عن قبائل وفصائل متصارعة. ويرى المؤلف أن ما يتوجب على الرئيس الأمريكي عمله هو ترك الأمور تجرى لحالها، دون تدخل عملي فيها. إذن برأي المؤلف لا يوجد دولة حقيقية، دولة تجمع شتات القوى المتصارعة فتكون الدولة الأمة. والحل برأيه سوف يتحقق عبر مسارين لا ثالث لهما. إما التصارع بين القوى والفصائل المتناحرة، فالدم هو القادر على إعادة تشكيل المكان وبناء هويات جديدة منصهرة ، وقابلة لعقد اجتماعي جديد. فيما المشار الثاني هو الغزو الخارجي من الغزاة البيض أو من العرب، وهو خيار مستحيل. ومن ثم فالخيار الأول هو الأقرب. على الولايات المتحدة أن تترك أمور الصراع على حالها وألا تتدخل، كالعادة إلا إذا تهددت مصالحها. وهو أمر صعب التحقق.
ولكن مع ذلك يوجه المؤلف عين الرئيس الأمريكي إلى ضرورة بناء صورة أخرى للولايات المتحدة. فهذه القارة في حاجة إلى هذه الصورة بعيدا عن الوجه الاستعماري الباحث عن مصالحه، والتدخل العسكري الدامي. فعليه أن يوجه برامج المساعدات والتمويلات اللازمة لمساعدة هذه البلدان على تغيير هذه الصورة ونيل إعجابهم.
سادساً- التوازن الصيني الياباني
تحتاج الولايات المتحدة في العقد المقبل أن تسعى لتحقيق توازن داخل جنوب شرق آسيا، عبر الموازنة بين الصين واليابان. والملاحظ من قراءة المؤلف للأوضاع أن اليابان هي البلد المقلقة لأمريكا. فهي على غير المتوقع القادرة على النهوض والمواجهة المحتملة، واستعادة الماضي المفقود. والحل الوحيد لهذا التوقع غير المحتمل أيضا هو مساندة الصين . فعلى الرغم من أن الصين تحتل المرتبة الثانية عالميا من ناحية القوة الاقتصادية. لكنها تعانى داخليا. لدى الصين قوة ديموجرافية لا يستهان بها، لكنها قوة تعانى من شرخ يقسمها لنصفين: سكان السواحل الأثرياء، وهم أبناء الطبقة الوسطى الذين يحصلون على دخل سنوي يصل إلى عشرين ألف دولار، وتبلغ نسبتهم 5% من السكان، ويصل تعدادهم لستين مليون نسمة. هذا في مقابل 80% من السكان يعيشون في الفقر، ويعانون من ضيق الحال والفاقة. هذا الوضع غير المحتمل قد يخلق مشكلة مستقبلية مع جيش التحرير المكون من الأساس من أبناء الفلاحين والطبقات الكادحة الذين لا يتوقع توقيت غضبهم. ولذلك فالصين في حاجة لمساعدة الولايات المتحدة حتى يتسنى لها الإبقاء على التوازن المطلوب في آسيا.
وفي الآن ذاته الولايات المتحدة في حاجة لمساندة بلد آخر يمثل شوكة للصين واليابان معا، وهى كوريا الجنوبية. فهذا البلد على عداء شديد مع اليابان والصين لأسباب تاريخية. ومن جهة يمكن الاستفادة من التكنولوجيا المتقدمة التي تقدمها كوريا الصين ونقلها إلى الصين وتقويتها بها، ومن جهة أخرى يمكن مساعدتها في مواجهة كوريا الشمالية وتهديداتها.
كذلك فإن الولايات المتحدة في احتياج شديد لمساندة دولتين أخرتين، وهما أستراليا وسنغافورة. وتمثل كلتاهما منصات حربية لأى مواجهة في آسيا، وكلاهما تمر أمامهما السفن التجارية، فسنغافورة تتحكم في واحد من المضايق الهامة وهو مضيق ملقا الذى يمر به النفط المتجه لليابان والصين من الخليج الفارسي، واستراليا منذ الاستعمار البريطاني تقوم بدور الحارس للتجارة العالمية المارة من أمامها، وتعمل أيضا كقوة إمداد، حيث كانت تمد الامبراطورية البريطانية بالمقاتلين، وهو ما فعلته مع الولايات المتحدة. وكلا البلدان في حاجة للأمن، وبالذات سنغافورة، فهي بلد غنى ولكنه غير آمن وفي حاجة للحماية من خطر ماليزيا وإندونيسيا.
خاتمة
لا شك أن لهذا الكتاب على تأخره أهمية كبيرة للباحثين وجمهور القراء وصناع القرار في العالم العربي، وفي مصر بالذات. فلقد تحققت نبوءات كثيرة قدمها المؤلف ودافع عنها وقدم طرق التعامل معها. فقد تنبأ بدخول الولايات المتحدة في تحالف مع إيران وأشار إلى ضرورة استمراره، وقدر عميقا الدور التركي في المنطقة كبديل استراتيجي أمام الولايات المتحدة، باعتباره رمانة الميزان الأمريكية أمام إيران وروسيا.
كذلك أسس هذا الكتاب لإمكانية قيام مؤسسات وبنى جديدة في العلاقات الدولية، هذه البنى الجديدة بنى إقليمية محدودة، ولكنها على محدودية ستكون قادرة على إعادة تشكيل العالم. وإن لم يركز على هذه النقطة باستفاضة، لكن القارئ يستطيع أن يدلل على حضورها عندما يشير إلى ما قامت به روسيا من الاتحاد اقتصاديا مع روسيا البيضاء، وسعيها لبناء وحدة اقتصادية جديدة، قد تكون مستقبلا، بحسب تأويلي، القوة المهددة للاتحاد الأوروبي، والمزعزعة لمكانته، ومكانة الولايات المتحدة في أوروبا، وبين دول شرق أوروبا.
ومع ذلك يبقى أخيرا التأكيد على أن مقاربة العلاقات الدولية بين المجتمعات ليس موضوعا تحكمه فقط الجغرافيا السياسية، ولكنه أيضا محكوما بالرأسمال الرمزي والثقافة القادرة على بناء جسور التفاهم، والممتدة عبر التاريخ. وإذا عاينا التصور الذى وضعه أنطونى جيدنز بشأن سقوط تصور الزمان والمكان القديم، فيبدو لي أن المستقبل لفهم جديد للعلاقات المكانية بين الدول، على أساس أن عقد التحالفات على أساس جغرافي، سوف تساعد التكنولوجيا الحديثة على تجاوزه، بحيث يمكن أن تنشأ تحالفات إقليمية تضم بلدانا، تريد حماية نفسها من الغول الأمريكى.