"... و من المتواتر عليه أن موريتانيا أحوج ما تكون إلي “يقظة نخبوية” تحمل مشروعا مجتمعيا إصلاحيا يرأب صدع ” اللحمة الشرائحية” و يعيد إلي مربع الفعل الثقافي الإيجابي بكل سرعة وثقة و قوة و عنفوان و إيمان صادق بواجب أسبقية و استعجالية تغيير العقليات المجتمعية المضادة و المعادية “للأمن المجتمعي” فئات ” المُكبين علي وجوههم” و الصداميين الاستئصاليين و “المتكيفين تكيفا سلبيا” و المتحولين فكريا".
استطاع كاتب مقال "طَبَقَات المُثَقًفِين المُورِيتَانيِيِن" بهذه الجملة السميكة لغة، الغزيرة محتوى و الوجيهة دعوة إلى استشراف المستقبل بلسان و وسائل العصر من خلال نخبة “يقظة” تُصَرف إيجابيا الفعلَ الثقافيَ الثلاثي (ثقَّف) غير المعتل، أن يُشخص بحسنِ قراءةٍ لواقع الثقافة و يُصنف باقتضاب أطيافَ الطبقة المتعلمة و المؤهلة بذلك إلى الوصول إلى مراقي التفتح الثقافي و اتباع دليل بناء الصرح الحضاري الذي:
· يبقي على الثوابت التاريخية المنقاة من شوائب الخرافة و الاعتبارات التراتبية المجحفة و الادعائية المستكبرة و الاكتفائية المقيدة عن الإبداع و الإنتاجية،
· يتميز بحيوية الحاضر الذي يصنع المعجزات على أساس التبادل الذي أصبح القاسم المشترك للدول و الشعوب الديناميكية،
· و يستشرف المستقبل بوسائل العلم الحديثة بناء على استقراء مكين و رصين لمفرزات الحاضر.
و شئنا أم أبينا فإن هذه البلاد تعاني أزمةَ غياب "الهوية" بثلاثية أوجه الفكر و التاريخ و المدنية؛ حقيقة مرة و واقع سقيم يحس البعض القليل بوخزه المؤلم فلا يحرك باتجاه الأمر ساكنا يسعى به إلى تلافي المأساة القابعة وراءه، و ينكره البعض الآخر و الغالب الأعم فيتمادى بسفور في غي الترف بأَوسِمة المعارف التي توجت تعليم أفراده في صروح العلوم العالية خارج البلد و لاحقا في داخله؛ ترف يأخذ كل تجلياته في التباهي بها و بما وفرته من مناصب عالية و مكانة وثيرة في شبكة النفوذ القائمة منذ ما قبل الاستقلال و المهيمنة و تبعث رسائله بارزة إلى ممسكي ينابيع الماضي الحاضر التي لا تجف فيستقي منها عنفوان الرجعية و لغة التراتبية ضمن بلاء العقليات المجتمعية المضادة و المعادية “للأمن المجتمعي” كما أحسن الكاتب التعبير.
و لا شك أن المشهد الثقافي الموريتاني الراهن ناطق في ظل ضعف أو غياب أو انهزام النخبة أمام المغريات المادية بأزمة غياب العطاء و توسع رقعة الكساد الذي بدأ يتحول إلى انحطاط حيث أن الذي بات يعلو صوته هو:
· الضمور الفكري و تصدع الجدار الأخلاقي و انحدار مستوى القيم والمُثل،
· و تهاوي الشعر، وغياب المسرح،
· و رداءة الموسيقى، وهبوط الأغنية،
· و قلة القراءة إن لم يكن انعدامها،
· و العديد من المظاهر الأخرى بتجليات مختلفة أهمها التحصل على المعرفة من الموبايل والفيديو كليب في الشكل الذي بات الأوسع انتشارا للتفاعل الثقافي والاجتماعي بين الشباب، تفاعل لا ينتج عنه إلا المزيد من التشويه الفكري والاجتماعي، إضافة إلى ما بات يظهره كذلك للعالم من عيوب المجتمع الأخلاقية والاجتماعية و ما يفضحه من عقليات أهل البلد القبلية و الاثنية و الشرائحية البغيضة لم تزحزحها التحولات الكبيرة التي بدأت تطرأ على العالم من حولنا، ولأن علاقتنا بالمعرفة علاقة لا قراءة ولا أهمية لكل أوجه الثقافة و الفكر و الروح المختلفة فيها.
و إلى حين ظهور نخبة مستنيرة مؤمنة بدورها آخذة بأدائه لوضع قواعد انطلاقة جديدة على أسس التحصيل العلمي، أسوة بكل الشعوب المتحضرة التي اكتسبت ثقافة حقيقية مؤثرة، بعد أن استطاعت الانتصار على قيودها و حيازة وسائل العصر العلمية الجليلة، فإن هذه الوضعية الثقافية الخطيرة السائدة في ظل تماهي المثقف مع ضعف أدائه و حصار الخواء المعرفي لبيئته هي التي ترهن البلد للتعاطي السياسي المدمر برعونته و غرضية الفاعلين فيه و ضيق آفاقهم، و كذلك تدني مستوى الأداء لدى المواطن في عملية التنمية بسبب جهله قواعد البناء و عدم خبرته و استشراء الكسل في طبعه العام و الاتكالية المعشعشة في ذهنه المزمن، وهما الطبعان الموروثان عن عقلية و ثقافة السيادة بالقوة و الاستكانة للضعف، و سوء التسيير في غياب الرادع، و استشراء الفساد بلا وازع ديني أو وطني في حل من سياسات التخطيط العلمي و التوجيه المنهجي الملتزم قواعد التطبيق المنتجة، و ميوعة مفهوم الدولة بالنتيجة، و زيادة تفشي أطوار الجهل المكتسب على خلفية الاعتماد المفرط و الإدمان المرضي على وسائل التواصل الجديدة و إهمال التعليم و تغييب إرادة تحسين مناهجه بما يناسب المتطلبات الوطنية الملحة للالتحام بالعصر و كسب رهاناته الكبيرة.