إن الوضع السياسي الموريتاني الغير الصحي يعكس بمرارة و جلاء حقيقة وضع الأحزاب المترنحة في مجملها. و هي التشكيلات التي، بينما يرتفع قرع طبول السياسة في كل أرجاء الأفق الوطني، لا يخف لأهلها نبض و لا يغمض لهم جفن، و فيما لا يهدأ لهم بال لحظة فإنها تبقي معلقة في سماء الحيرة أسئلة من بينها - هل يدرك سياسيو البلد على كافة الدرجات و كل المستويات و بنسبة الحضور أهدافَ التنمية السياسيّة و خصائصها؟
- هل لهم إلمام متبصر بنظرياتها؟
- هل يميزون بجدارة و حذر بينها و المفاهيم الفرعية الغامضة السياسية و الإيديولوجية و الأخلاقية الغير قابلة للقياس و الملاحظة العلمية مثل العدل و المساواة و غيرهما؟
- و هل يتعاملون بنضج - يفترض أن ستة عقود من الدولة المستقلة و مرور ثلاثة أجيال من المثقفين و المتعلمين و السياسيين - مع مدلولاتها و أبعادها علما بأن التنميّة السياسيّة(Politique de développement) تُعرفُ في غالب الأحوال بأنّها:
· عبارةٌ عن مجموعةٍ من الوسائل التي تستخدمها الدول في تطويرِ سياستها الداخليّة والخارجيّة،
· وأيضاً بأنها الطريقةُ التي تهدفُ إلى تطبيقِ إستراتيجية سياسيّةٍ تؤدّي إلى تطوير حالة الضعف السياسيّ المنتشرة في دولةٍ ما، وتسعى إلى المحافظةِ على استقرارها سياسياً وسط البيئة التي توجدُ فيها. كما أن أنه للتنمية السياسيّة تعريفات أخرى منها أنها مجموع العمليات التنمويّة التي تحرصُ الدول على تطبيقها من أجلِ تعزيز قدرتها على مواجهةِ التحديات السياسيّة الدوليّة القائمة.
إن كل المؤشرات الصارخة بغياب لافت لأية تنمية سياسية تخلق إطارا سياسيا لا يقل قدما عن أمثاله في حيزي المغرب العربي و الغرب الإفريقي و لا بعدا نضاليا وطنيا و تحرريا تارة و نهضويا توجيهيا إلى البناء و الرفعة تارة أخرى. فإلى غاية منتصف السبعينيات تقاسم حزب الشعب الموريتاني الذي ابتلع الأحزاب المشكلة لفسيفساء جسم سياسي كان غاية في نضج و وعي الرعيل الأول و تماهي رواد و مناضلي الحركات السياسية غير المرخصة و النشيطة مع الوعي العالمي إذ ذاك و التحامه العجيب بمختلف المحطات الأيديولوجيات في تلك المرحلة التي أعقبت شراراتُها لهيبَ الحرب العالمية الثانية و انقسام العالم إلى فسطاطي الشيوعية و الرأسمالية.
و يلقي هذا الغياب الصارخ للتنمية السياسية بكلكله على واقع سياسي تخرج رويدا رويدا أحزابه عن المسار المعهود لها بل و يخلق من الخلافات البيزنطية المحتدمة بينها و حضور الانطوائية على الذات المتضخمة لديها و في ظل غياب الوطن ضمن الخطاب و في صميم العمل حواجزَ بالغة السماكة و عصية على الخرق إلى رحاب الديمقراطية البناءة و آفاق المستقبل الواعدة.
و إن هذا الغياب الذي يفضح بُعد النضج و قلة الحيلة و عدمَ القدرة على الإمساك بدفة قيادة سفينة الوطن المترنحة في البحر اللجي للتحولات العالمية التي لا يتوقف هديرُ أمواجها المتلاطمة، يُعري أيضا ما قد حصل من ارتكاس خطير للبعد الوطني بعدما كان تجسد منه يالإصرار و قبول التنازلات عن بعض ممارسات الماضي الظلامية من لدن الرعيل الأول قبيل و بعيد الاستقلال حسا وطنيا أكسبته إرادة التحول صادقا و أرست انطلاقا بعد خلق ملحوظ لنشوة عمل بناء الصرح الجمهوري الشمولي بالانخراط الفوري و سعي مستجد رمى إلى تجاوز العقليات السلبية القرون-وسطوية و تبني المفاهيم التقدمية التي كانت رياحها تصل البلد على الرغم من بعد تلك الفترة عن وسائل هذا العصر و قدرة و سرعة توصيلها المذهلة.