المتابع لتغريدات رئيس الحزب الحاكم الأخيرة لابد وأن تستوقفه ثلاث عبارات وردت في هذه التغريدات، وهذه العبارات كانت أقرب لهجاء النظام الحاكم منها إلى مدحه، وفي أحسن الأحوال، فإن أقصى ما يمكن أن يُقال عنها، ومن أكثر الناس حسن نية، بأنها تحتمل الهجاء والمدح على طريقة ما جاء على لسان الأصمعي في كتاب "من نوادر الأعراب" لمؤلفه أحمد إبراهيم زهوة .
حكى الأصمعي فقال: "كنت أسير في أحد شوارع الكوفة فإذا بأعرابي يحمل قطعة من القماش، فسألني أن أدله على خياطٍ قريب، فأخذته إلى خياط يُدعى زيداً، وكان أعور، فقال الخياط: والله لأخيطنه خياطة لا تدري أقباءٌ هو أم
دراج، فقال الأعرابي: والله لأقولن شعراً لا تدري أمدحٌ أم هجاء، فلما أتم الخياط الثوب أخذه الأعرابي ولم يعرف هل يلبسه على أنه قباء أم دراج، فقال في الخياط هذا البيت:
خاط لي زيد قباء ... ليت عينيه سواء
هذا البيت يمكن أن يعتبر بأنه دعاء للخياط بشفاء العين المصابة، ويمكن أن يعتبر بأنه دعاء عليه بالعمى، وبشكل أو بآخر فإن شيئا من هذا الغموض يحدث مع "إصلاح" الحزب الحاكم، ومع تغريدات رئيس هذا الحزب، فاللجنة الحكومية التي تتولى إعادة خياطة أو إعادة صياغة هذا الحزب، لا نعرف إن كانت ستأتي بقباء أو دراج، وتغريدات رئيس الحزب لا ندري إن كانت مدحا أم هجاء، ويكفي أن نتوقف مع ثلاث عبارات جاءت في هذه التغريدات حتى نتأكد بأن هذه التغريدات كانت أقرب إلى الهجاء من المدح.
صهريج متهالك
في إحدى تغريداته انتقد رئيس الحزب الحاكم المنتدى لأنه وزرع في مدينة النعمة أطنان مياه من صهريج متهالك. فهل أراد رئيس الحزب الحاكم أن يذكرنا من خلال هذه التغريدة بالحقائق الأربع التالية:
1 ـ أن أهلنا في النعمة، مثلهم مثل أهلنا في بقية مدن البلاد، ما زالوا وبعد عشر سنوات من "الإنجازات الجبارة" و"القفزات النوعية" بحاجة إلى صهريج متهالك يحمل أطنانا من الماء يتبرع بها حزبٌ معارض.
2 ـ أن السلطة عاجزة عن توفير المياه للمواطنين، الشيء الذي فتح المجال لتدخل بعض الأحزاب السياسية، مع العلم بأن توفير المياه ليس من مهام الأحزاب السياسية، فإن تطوع حزب ما بتوفير برميل ماء فله أن يشكر على ذلك، وإن بخل بذلك فلا لوم عليه لأن ذلك ليس من مهامه، ويتأكد الأمر بالنسبة للأحزاب المعارضة المحرومة من موارد الدولة.
3 ـ أن بعض الأحياء في العاصمة نواكشوط ما تزال حتى يومنا هذا تحصل على الماء عن طريق عربات متهالكة تجرها الحمير، مما يعني بأن توفير الماء في إحدى مدننا الداخلية عن طريق صهاريج متهالكة قد يشكل ـ من هذه الزاوية ـ تطورا وترفا لافتا. وذكر مثل ذلك الصهريج المتهالك قد يشكل دعاية للمنتدى، خاصة وأن بعض الأسر في العاصمة ما يزال يأتيها الماء على عربات متهالكة تجرها الحمير.
4 ـ أن أغلب الصهاريج التي تنقل الماء في العاصمة نواكشوط هي أيضا صهاريج متهالكة، مما يعني بأن ظهور صهريج متهالك في مدينة النعمة ليس بالأمر الغريب الذي يستحق الانتقاد. ومن أراد أن يتأكد من تهالك صهاريج العاصمة فما عليه إلا أن يزور إحدى نقاط تجمع تلك الصهاريج.
لقد ذكَّرنا رئيس الحزب الحاكم، بعد عشر سنوات من "الإنجازات الجبارة" و"القفزات النوعية"، بأن الرئيس المؤسس ما يزال عاجزا عن توفير أبسط ضرورات الحياة، أي توفير الماء، ولذلك فقد احتاج أهلنا في النعمة لصهريج المنتدى المتهالك، ولذلك أيضا فلا يكاد يمر يوم إلا وسمعنا باحتجاج ضد العطش في هذه المدينة أو تلك. إن أشد انتقاد يمكن أن يتم توجيهه إلى السلطة الحاكمة هو أن نقوم بمقارنة إنجازاتها في قطاع ما مع إنجازات هيئات تطوعية في حزب معارض، ولذلك فربما يكون رئيس الحزب الحاكم قد أراد بهذه المقارنة التي لم يسبق إليها أن يرد بطريقة غير مباشرة على بعض وزراء الحكومة، خاصة وزير المياه والصرف الصحي، الذي وصف الحزب الحاكم في مهرجان في مدينة لعيون بأنه حزب فاشل، أي أنه حزب متهالك..بالمناسبة أيهما أكثر تهالكا: الحزب الحاكم أم الحكومة؟
كله من مال الشعب
في تغريدة ثانية كتب رئيس الحزب الحاكم بأنه "خلال شهر ستكون مياه الظهر في النعمة، وبعد 45 يوما ستصل تنبدغه، لتصل آمرج بعد 90 يوما، وتواصل باتجاه عدل بكرو.سيعلن خلال أسابيع عن مناقصة تزويد جكني عبر عوينات الزبل. كله من مال الشعب الذي وضع لأول مرة في مصرفه الصحيح".
لقد استوقفتني في هذه التغريدة هذه المواعيد القريبة جدا التي تعهد بها رئيس الحزب الحاكم، وأتمنى أن يكون تعهده هذا دقيقا وصحيحا، الشيء المؤكد الآن هو أن ما جاء في نهاية التغريدة ليس صحيحا، فمشروع الظهر وحاله في ذلك كحال مشروع آفطوط الشرقي قد تم تمويله من قروض مقدمة من طرف : البنك الإسلامي للتنمية، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والوكالة الفرنسية للتنمية، وبطبيعة الحال فهناك مساهمة متواضعة من الدولة الموريتانية.
إن تمويل هذا المشروع ليس من مال الشعب كما جاء في تغريدة رئيس الحزب الحاكم، بل تمويله قد جاء من قرض سيتم تسديده على حساب الأجيال القادمة، والتي يبدو أننا لن نورثها إلا الديون، فالطفل الموريتاني أصبح يولد وهو مدين للمؤسسات المالية ولشركائنا في التنمية بما يقارب نصف مليون أوقية بالحساب القديم.
الغريب في الأمر أن هذه الديون التي قال عنها نائب المدير العام لصندوق النقد الدولي في مقابلته مع صحيفة الأخبار بأنها "تضع موريتانيا أمام خطر كبير يهدد بوصولها إلى مستوى المديونية الحرجة عند تطبيق المعايير الدولية لاستدامة الدين". الغريب في الأمر أن هذه الديون قد زاد حجمها في عهد الطفرة الاقتصادية، وفي زمن تصاعدت فيه الضرائب وتضاعفت، وزادت فيه أرباح الدولة من المحروقات، وبيعت فيه عقارات وأملاك الدولة، وتقلصت فيه النفقات العمومية وانكمشت، وازداد فيه بؤس المواطن..فأين ذهبت كل تلك الأموال الطائلة؟
حتى اليوم
شكلت "حتى" عقدة للنحويين الكبار، وذلك لأنها ترفع وتجر وتنصب، وتنسب لسيبويه العبارة الشهيرة التي تقول "أموت وفي نفسي شيء من حتى"، كما تنسب هذه العبارة لغيره النحويين الكبار.
هذا عن "حتى" في علم النحو، وهي لا تعنينا في هذا المقام، فما يعنينا هنا هو "حتى" التي ظهرت في آخر تغريدة لرئيس الحزب الحاكم. فبعد أن تعهد رئيس الحزب الحاكم بتوفير الماء في وقت قريب في عدد من مدن الحوض الشرقي، وبعد أن تحدث عن الإنجازات، ختم تغريدته عن الإنجازات بالقول " وهو ما لم تقم به الأنظمة المتعاقبة منذ الاستقلال حتى اليوم".
وللعلم فهذه التغريدة قد نشرها رئيس الحزب الحاكم في يوم 18 مارس 2018، وهو ما يعني بأن النظام الحالي كان ضمن الأنظمة المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى اليوم، والتي كان رئيس الحزب الحاكم قد انتقدها ـ بالمجمل ـ في تغريدته.
من المؤكد بأن نظام ولد عبد العزيز سيتم إدراجه في وقت قريب ضمن الأنظمة المتعاقبة التي ستنتقدها الموالاة، ولكن الشيء اللافت في تغريدات رئيس الحزب الحاكم هو أن نظام ولد عبد العزيز قد تم إدراجه ضمنيا مع الأنظمة المتعاقبة، وذلك حتى من قبل خروجه من الرئاسة.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل